من نعم الله على الإنسان أن جعله اجتماعيا بطبعه يحتاج إلى الآخرين ويحتاج إليه الآخرون.
فالعلاقة بين البشر علاقة دائمة مستمرة، بل هي ضرورة بشرية، إذ يصعب على الإنسان وربما يستحيل عليه الانكفاء على الذات والاستغناء عن الآخرين.
وترجع ضرورة الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية إلى أمور عديدة.. لعل من أهمها ما يلي:
1. نداء الفطرة:
فالإنسان اجتماعي بطبعه، يحب تكوين العلاقات، ويهوي بناء الصداقات، والفطرة السوية تمج الانعزال التام وتستهجن الانطواء وترفض الانقطاع عن الآخرين.
قال الله تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ". (الحجرات، الآية: 13)
2. دعوة الإسلام:
يقول الله تعالى: " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم " (محمد: 22 – 23).
ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " (رواه الترمذي).
ويقول الشاعر:
إنْ هدى الرحمن شخصًا واحدًا بكَ خير لك من بحر دُرَرْ
وهـو خير لك عند الله ممـا بدا للشمس أو نـور القمر
ويقول عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه): " خالطوا الناس وزايلوهم وصافحوهم ودينكم لا تَكْلِمُونَه"(2).
ويقول الإمام النووي (رحمه الله): " أعلم أن الاختلاط بالناس وحضور جُمعهم وجماعاتهم، ومشاهد الخير ومجالس الذكر معهم، وعيادة مريضهم.
وحضور جنائزهم، ومواساة محتاجهم، وإرشاد جاهلهم، وغير ذلك من مصالحهم؛ هو المختار الذي كان عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسائر الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم).
وكذلك الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من علماء المسلمين وأخيارهم، وهو مذهب أكثر التابعين ومن بعدهم، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر الفقهاء (رضي الله عنهم أجمعين) " (3).
رُوي أن الحجاج أحضر رجلًا فأمر بضرب عنقه، فقال الرجل: أيها الأمير خذ بيدي وامش معي إلى بساطك ثم أصنع بي ما شئت.
فأجابه الحجاج. فقال الرجل: بحق الصحبة أن تعفو عني. فعفا عنه، وقال: أتيتَ بشفيع عظيم. فلم يضيع الحجاج صحبة لحظة " (4).
3. أنين الواقع:
فعلاقة الناس بعضهم ببعض بدأت في الانحدار، بل هوت إلى هُوة سحيقة، حتى علاقة الأقارب أصبحت في حالة يرثى لها.
لقد اختفت العديد من العادات الاجتماعية الكريمة واندثرت، وأصبح الجار لا يعرف جاره، والأخ لا يزور أخاه إلا في الأعياد والمناسبات، وانقطعت الأرحام إلا ما رحم الله، وأصبح شعار كثير من الناس: " نفسي.. نفسي ".
4. صناعة الأفكار:
فالاحتكاك بالآخرين والاتصال بهم ومحاورتهم ومناقشتهم، كل ذلك من الوسائل العملية لتبادل المعلومات، بل وصناعة الآراء وصياغة الأفكار ونشر المبادئ والقيم.
وفعل رجل في ألف رجل، أبلغ من قول ألف رجل في رجل
5. تبادل المصالح وتحقيق المنافع:
لا يستطيع الإنسان كائنًا مَنْ كان أن يكتفي بنفسه عن الآخرين، فالكل في حاجة إلى الكل.
ومن ظن غير ذلك فخير له أن يبحث عن كوكب آخر يعيش فيه أو أن يغط مع أحلامه في سبات عميق..إنها حقيقة لا ينكرها إلا من حُرم العقل والحكمة:
لكل داء دواء يسـتطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها
6. أمر لا يستغني عنه كل مصلح:
بناء العلاقات وإقامتها وتوطيدها أمر يصعب أن يستغني عنه من ينشد الإصلاح والتغيير، إذ أن التوجيه والنصيحة غالبًا ما تكون بالاحتكاك المباشر مع الناس.
كما أن التأثير الفاعل إنما يكون بالاتصال بالآخرين والتحاور معهم وسماع آرائهم وانتقاداتهم عن قرب.
ولقد اعتنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بهذا الأمر حتى إنه كان يغشى منتديات قريش، ويزور القبائل، ويجلس مع أشراف القوم وعامتهم، ويعود المرضى، ويتبع الجنائز.
ويشارك في الأحلاف، فلما فعل ذلك أستطاع أن يبني قاعدة متينة من العلاقات الاجتماعية والتي تمكَّن بها – بعد توفيق الله – أن ينشر دعوته ويقيم دولته.
وإذا المصلحون في القوم ناموا نهضت بينهم جيوش الخراب
7. علـم وتخصص:
أصبحت مهارة تكوين وبناء العلاقات علم وتخصص يُدَرَّس في كثير من الجامعات المرموقة في العالم.
ولم تعد مهارة موروثة أو محصورة لدى عدد محدود من الناس.
إنها علم يمكن اكتسابه والحصول عليه بل وإتقانه وذلك عن طريق الدراسة والبحث ومن ثم التطبيق والممارسة.
العلـم يحيي قلوب الميِّتيـن كمـا تحيا البلاد إذا ما مسَّها المطرُ
والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه كما يُجَلِّي سواد الظلمة القمـرُ
--------
الهوامش:
(1) محمد الغزالي، خلق المسلم، دار القلم، دمشق، 1987، ص 197 – 199.
(2) رواه وكيع بن الجراح في كتاب الزهد 3 / 853.
(3) الإمام النووي، رياض الصالحين، ص 208.
(4) نذير محمد مكتبي، صفحات مشرقة من حياة السابقين، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1992، ص 196.
الكاتب: د. علي الحمادي
المصدر: موقع المرتقى